هل لقاح الكورونا غير فعال؟ مغالطة إحصائية خطيرة
Friday, August 13, 2021 · 5 minute read
بسم الله الرحمن الرحيم
السؤال الذي بدأ الحكاية
وقف الطبيب بباب قسم الكورونا في المشفى وعلى وجهه آثار الإحباط والحيرة. لم يكن هذا الشعور بسبب الحالات الصعبة التي يعالجها، فقد اعتاد على هذا الأمر الذي صار مشهدا يوميا في حياته المهنية. ولكنّ الذي حيّر صاحبنا سؤال سأله ثمّ تمنّى أن لم يسأله. لقد دفعه القلق من تزايد الإصابات بصنف “دلتا” من فايروس الكورونا، إلى سؤال ظنّ أن جوابه سيقوده إلى نتيجة مفادها أنّ لقاح الكورونا ما زال فعّالا رغم مرور الوقت ورغم الطفرات التي تحصل لهذا الفايروس. كان السؤال الذي سأله صاحبنا: “ما نسبة الحاصلين على اللقاح من بين جميع الحالات الصعبة؟"، وكان يعلم أنّ نسبتهم لا بدّ أن تكون ضئيلة، فاللقاح فعّال وهو يعلم ذلك جيّدا فقد قرأ الدراسات وتابع الأبحاث، ولكنّه سأل ليذكّر نفسه بذلك ويطمئن. فإذا بالجواب يأتيه صادمًا على حين غفلة منه: “نصف الحالات الصعبة كانوا قد تلقوا اللقاح!”. نصفهم!

حيرة الأطباء
يا لهذه المعلومة. أنا الذي أوصي الناس بتلقي اللقاح وأحثّهم عليه حثًّا، هل خُدعت؟ هل سِرتُ في القطيع على غير بصيرة؟ هل دفعني خوفي على سمعتي المهنية أن أردّد ما يقوله أقراني بغير تقصٍّ ولا بحث جاد؟ هل يعقل أن غريبي الأطوار محاربي اللقاح الذين كنت أظنّهم قتلوا بجهلهم المسنّين والضعفاء، أيعقل أنهم كانوا على حقّ؟ لا يعقل هذا. أنا متأكد أن اللقاح جيّد. أو ربّما فاتني شيء. لست متأكدا الآن من شيء! كيف سأوصي به النّاس وعندي دليل موضوعيّ على عدم فاعليّته؟ نصف الحالات الصعبة هم ممّن تلقوا اللقاح! سأخبر أقراني بهذا الخبر الصاعق، لا بدّ أن يعلموا، لا بدّ.
انتشر الخبر بين الأطبّاء كالنّار في الهشيم. أصابهم بِحيرة كبرى. تعاهدوا بينهم على ألاّ يذيعوا الأمر حتى لا تعمّ حالة من الفزع بين العامّة. أحجم بعضهم عن حثّ الناس على تلقّي اللقاح، أو خفّفوا من وطأة نصحهم، فمن سألهم نصحوه، ومن لم يسألهم لم يسعوا إليه ليدفعوه.
التسريب
لقد كان الأمر يؤرّق صاحبنا ويقضّ مضجعه، وزاده أرقا وضيقا ذلك العهد الّذي أخذه أقرانه على أنفسهم أن يخفوا الأمر عن عامّة الناس. لقد كان عهدًا قاسيا شديدًا، فكيف له أن يعيش مع هذا السّرّ ويخفيه عن البعيد وعن القريب؟ حاول جاهدًا أن يكتم الأمر، واشتدّ به الضيق كلّما تتابعت الأيام، حتّى التقى يوما بأحد العامّة، وكانت قد نفدت طاقته أن يحمل السرّ، فقال له: “أخبرك سرًّا وتكتمه عن الناس”، وقبل أن يسمع القبول أو الرفض كان قد شرع بقصّ الأمر عليه وجبينه يتصبب عرقا من شدّة ما يقول عليه.
العامّي
أنصت ذلك العامّي باهتمام إلى ما يقوله صاحبنا الطبيب، وأصابته الدهشة ممّا يسمع، فأطرق قليلا، ثمّ سرعان ما انفرجت أساريره، واطمئنّت نفسه، وانتظمت نبضات قلبه، ثمّ سأل: “ما نسبة الحاصلين على اللقاح في البلد كلّه؟"، قال الطبيب: “خمس وستون بالمائة”، فنظر إليه العامّي مبتسمًا: “هون عليك، اللقاح فعّال، بل فعّال جدا”.
نظر الطبيب متعجّبا، “كيف؟”
الأمر بسيط. لو كانت نسبة أصحاب العيون الزرقاء في المجتمع هي سبعون بالمائة، فكم كنت تتوقع أن تكون نسبتهم بين المرضى؟
قال الطبيب: “سبعون بالمائة بالطبع”
“ولو كان اللقاح غير فعّال، وكانت نسبة الذين تلقّوه تسعين بالمائة، فكم كنت تتوقع أن تكون نسبتهم بين المرضى؟”
“خمس وستون بالمائة”
“وكم نسبتهم بين المرضى حقّا؟”
“خمسون بالمائة”
“ألا ترى إذن أن اللقاح فعّال؟”
“نعم. تقريبا فهمت”
“سأعطيك مثالا”
المثال

“لنفترض أن بلدا فيه ١٠٠ شخص، ٩٠ منهم تلقوا اللقاح، وال ١٠ الآخرون لم يتلقوه. ولنفترض أيضا أن احتمال الإصابة لمن لم يتلقّ اللقاح هو واحد من كل خمسة، أي ٢٠٪، وأن اللقاح يخفض احتمال الإصابة تسع مرات، أي أن احتمال الإصابة لمن تلقى اللقاح هو نحو ٢.٢٪.”
“حسنا لنفترض ذلك”
“كم بالتقريب سيمرض من بين العشرة الذين لم يتلقوا اللقاح؟”
“عشرون بالمئة. أي شخصان”
“وكم سيمرض من بين التسعين الذين تلقوه؟”
“٢.٢٪. أي شخصان أيضا بالتقريب”

“وإذا نقلنا جميع هؤلاء المرضى إلى المشفى، ماذا سيرى الطبيب؟”

“سيرى مريضَيْن من كلّ مجموعة. أيّ أن نصف المرضى هم ممّن تلقوا اللقاح "
“وهل اللقاح في مثالنا هذا غير فعّال؟”
“بل هو فعال جدا، فهو يخفض احتمال الإصابة تسع مرات، أي أن فاعليته نحو ٩٠٪”
“هل أنت مرتاح الآن؟”
“نعم، الحمد لله. لكن كيف حصل ذلك؟ كيف فاتني هذا الأمر؟”
“لا عليك، فهذه مغالطة إحصائية يقع فيها الكثيرون، تسمّى مغالطة معدّل الأساس، حيث نميل إلى إغفال نسبة الأساس (نسبة متلقّي اللقاح في مثالنا) عند معالجتنا للمعطيات الإحصائية”
“فهمت، بارك الله فيك. سأقرأ عنها حتما.”
“بالمناسبة، هل تعلم أنّ هذه المغالطة خطيرة أيضا في مجال الفحوصات الطبية؟”
“لا. أخبرني”
“سأخبرك”
النتيجة المفاجئة للفحص الطبّي
“هب أنّ هناك مرضًا يصيب نحو ٢٪ من السكّان، وأنّ هناك اختبارا لكشف هذا المرض، ولكنّ هذا الاختبار،كما هو الحال في أكثر الأحيان، ليس دقيقا مائة بالمائة، بل إن له نسبة إيجابية كاذبة هي ٥٪”
“تقصد أن الاختبار إذا أجراه شخص معافًى ستكون نتيجته صحيحة بنسبة ٩٥٪، وقد يخطئ الاختبار التشخيص بنسبة ٥٪ فقط”
“بالضبط”
“هذه نسبة جيدة جدا”
“نعم. ظننت أنك ستقول ذلك. لنفرض أنك أرسلت أحدهم إلى إجراء هذا الاختبار، وكانت نتيجته إيجابية (أي أن الشخص مصاب بالمرض)، فهل ستصدق النتيجة؟”

“بالطبع، فهو اختبار دقيق بنسبة ٩٥٪”
“ولكن تذكّر أن هذا المرض نادر”
“ما العلاقة؟”
“لنضرب مثلا: في بلد من البلدان، يعيش ١٠٠٠ شخص. وبما أن المرض يصيب ٢٪ من الناس تقريبا، فإنّ نحو ٢٠ شخصا من هؤلاء الألف مصاب بالمرض، وال٩٨٠ الآخرون معافون. نحن طبعا لا نعلم بالتحديد من المصاب ومن المعافى

لنرسلهم جميعا إلى هذا الاختبار. الاختبار سينجح في كشف العشرين حالة من المصابين بالفعل، ولكنّه أيضا سيزعم أن ٥٪ من المعافين هم مصابون”
“نعم صحيح”
“وكم ٥٪ من المعافين؟”
“دعني أبحث عن آلتي الحاسبة”
“لا عليك. إنهم ٤٩ شخصا. إذن فالاختبار أعطى نتيجة إيجابية ل٦٩ شخصا، منهم ٢٠ مصابون بالفعل، و٤٩ غير مصابين! وهذا لأن عدد المعافين أصلا كبير، ف ٥٪ منه عدد لا يستهان به”

“هل تقصد…”
“نعم نعم. إذا أرسلت أحدهم إلى هذا الاختبار، وكانت النتيجة إيجابية، فهذا لا يعني أنه مصاب! بل احتمال إصابته هو ٢٩٪ فقط، وباحتمال ٧١٪ هو معافى تماما!”
“يا للهول! لا بدّ أن أدرس هذه الأمور”
“نعم لن يضرّ ذلك”
“اعذرني الآن، عليّ أن أذهب، فعندي مريض جاءت نتيجة اختباره إيجابية، سأذهب لأهنّئه بالسلامة. السلام عليكم”
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته”